الشباب.. وروح الإفراز
بقلم نيافة الأنبا موسى "كى يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان فى معرفته، مستنيرة عيون أذهانكم، لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه فى القديسين، وما هى عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين" (أف 17:1-19).
يتضح من هذه الآية أن الإفراز أمر هام فى حياة الإنسان الروحية، كشركة سرية مع المسيح، وأيضاً فى حياته اليومية كشركة محبة مع الآخرين، وكذلك فى تكوين الشخصية المسيحية المتكاملة. لذلك تكلم الآباء القديسون كثيراً عن الإفراز والتمييز كأهم فضيلة يجب أن يقتنيها السائرون فى طريق الملكوت.
اجتمع جماعة من الآباء عند الأنبا أنطونيوس وتباحثوا فى أى الفضائل أكمل وأقدر على حفظ الراهب من جميع مصائد العدو،
فمنهم من قال: أن الصوم والسهر فى الصلاة يقوّمان الفكر، ويلطفان العقل، ويسهلان للإنسان سبيل التقرب إلى الله.
ومنهم من قال أنه بالمسكنة والزهد فى الأمور الأرضية يمكن للعقل أن يكون هادئا ًصافياً خالصاً من هموم العالم، فيتيسر له التقرب من الله.
وآخرون قالوا: إن فضيلة الرحمة أشرف جميع الفضائل، لأن الرب وعد أصحابها قائلاً: "تعالوا إلىّ يا مباركى أبى، رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت34:25).
فلما انتهوا من الكلام قال أنبا أنطونيوس: (حقاً إن كل هذه الفضائل التى ذكرتموها نافعة، ويحتاج إليها كل الذين يطلبون الله ويريدون التقرب إليه، إلا أننا قد رأينا البعض يهلكون أجسادهم بكثرة الصوم والسهر، والإنفراد فى البرارى والزهد، حتى أنهم كانوا يكتفون بحاجة يوم واحد ويتصدقون بكل ما يمتلكون، ومـع كـل ذلـك رأينـاهـم وقـد حـادوا عن المسلك القويـم وسقطوا وعدموا جميع الفضائل وصاروا مرذولين، وسبب ذلك أنهم لم يستعملوا الإفراز).
أولاً: أهمية الإفراز:
يعمل الإفراز عملاً هاماً فى المجالات التالية:
أ- يوضح لنا الطريق الروحى :
الإفراز يكشف للمؤمن معالم طريق الملكوت سواء من جهة التخلص من الرذائل المختلفة، أو اكتساب الفضائل المسيحية، فكثيراً ما تمر على الإنسان لحظات من الحيرة والقلق والإحساس بالتيه، وذلك حينما تنفتح عيناه على نفسه الداخلية فتتكشف له ضعفاتها واحتياجاتها العميقة، وكذلك حينما يقرأ فى الكتب الروحية المختلفة، فتختلط عليه الأمور، كيف يكتشف الطريق السليم للتخلص من الضعفات ولأخذ عطايا الروح القدس. فقد يُقرأ عن تدريب للاتضاع ويدرس خطواته جيداً، ولكنه إذ ينسى فحص دوافعه الدفينة من ممارسة هذا التدريب يسقط فى نوع من الاتضاع المزيف، الذى هو أقرب إلى الكبرياء منه إلى الاتضاع.
كثيراً ما تختلط علينا الأمور فنحيا بطريقة ناموسية، حينما نركز على دور الجهاد، أو نتطرف إلى حياة مستهترة حينما نركز على دور النعمة. هنا يأتى الإفراز كفضيلة أساسية تضبط الأمور وتوضح معالم الطريق، وتعلمنا أن خلاصنا هو بالنعمة وأن النعمة هى العطية السماوية للمجاهدين. نحن بالجهاد نحصل على نعمة وبالنعمة نستطيع أن نجاهد، وبدون النعمة لا يملك جهادنا قدرة تخليصنا حتى لو سلمنا جسدنا إلى الحريق.
إنسان يحزن بسبب ما جرح به قلب الرب من خطايا قديمة، وما يشعر به من قصور فى الحاضر، وآخر يفرح بسبب حنان الرب الذى غفر له الماضى، ومستعد أن يدعم حاضره بنعمة قوية. التطرف فى أى الاتجاهين خطأ ولابد من أن يسلك الإنسان باتزان ما بين الانسحاق والرجاء. هنا يأتى دور الإفراز أيضاً... وهكذا.
ب- اكتشاف مشيئة الله :
فى كل يوم نحتاج إلى اكتشاف مشيئة الله فى حياتنا، وقصده من أحداثها اليومية، ورأيه فى الأمور المتخالفة التى تعبر بنا، وفى هذه جميعها يأتى دور آخر للإفراز، إذ أننا بواسطته نستطيع أن نميز الأمور، ونتعامل مع الناس فنختار مثلاً الصديق الصالح، والكتاب الصالح، والجلسة الصالحة، والتصرف السليم. الإفراز يعطينا أن نضبط ميول قلوبنا ومشاعرنا ونحن نسلك وسط برية هذا العالم، فلا ننجرف وراء تيار العاطفة ولا نخضع لروح الأنانية، بل نحيا فى حب مسيحى باذل، وتعاون ووداعة مع جميع الناس، دون أن نفقد حدودنا فنذوب فى المجتمع، وتدخل إلينا شروره. المسيحية بالإفراز تقدم للمجتمع شخصيات متكاملة روحياً ونفسياً واجتماعياً، يصيرون ملحاً لهذه الأرض، وأنواراً فى هذا العالم، وسفراء عن المسيح يسوع.
نحتاج إذن إلى التصاق يومى بالرب يسوع المسيح، لنأخذ إرشاده المباشر فى كافة ظروف الحياة ومصادماتها اليومية، ولنستعلن مشيئته الصالحة فى كل أمر. ويكفينا كدليل على أهمية الإفراز فى الحياة اليومية، تلك السقطة التى حدثت مع يشوع حينما سمح للجبعونيين أن يخدعوه. ويقطعوا عهداً معه، لأنه لم يسأل الرب فى هذا الأمر (يش 14:9).
ج- الإفراز يحمينا من الهلاك :
قال الأنبا أنطونيوس: (الإفراز هو الذى يعلم الإنسان كيف يسير فى الطريق المستقيم الملوكى، وكيف يحيد عن الطريق الوعر، فهو يعلم الإنسان كيف لا يسرق من الضربة اليمينية بالامساك الجائر، ولا من الضربة الشمالية بالتهاون والاسترخاء).
ويحدثنا البستان عن الراهب نومينوس الذى أظهر من ضبط الهوى مقداراً زائداً، ومكث سنين كثيرة حابساً نفسه فى قلاية، وكيف أن الشياطين تلاهت به بإعلانات ورؤى، حتى تهود واختتن. فبعد أتعاب وفضائل جزيلة فاق بها جميع الإخوة، أراه الشيطان شعب المسيحيين مظلمين وعابسين! وشعب اليهود يضيئون مع موسى النبى، وسمع صوتاً يقول له: إن شئت أن تنال فرح هذا الشعب وضيائه تهود واختتن.
كذلك نقرأ عن ايرينيس أنه بعد أن سكن البرارى مستعملاً تقشف السيرة والنسك والتوحد أكثر من كل الرهبان، طرحه إبليس فى بئر عميقة إذ قدم له هذه المشورة الفاسدة - ظاهراً له فى شكل ملاك نور - ليؤكد له عناية الله به، فانتشله الرهبان بعد زمان، ومات فى اليوم الثالث.
لذلك تحتاج نفوسنا إلى روح الإفراز، حتى لا ننخدع من أهوائنا وشهواتنا، وحتى لا نرضى عن أنفسنا أو نغتر، عالمين أن "الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداً ،
ولكن كل واحد يجرب، إذا انجذب وانخدع من شهوته" (يع 14،13:1).
ثانياً: الإفراز وضربات اليسار:
يحتاج المؤمن إلى الإفراز أثناء محاربته لخطاياه وضعفاته المتعددة فمثلاً:
أ- الخطايا الذاتية:
كالرياء والأنانية وحب الظهور والاعتداد بالرأى والثقة الزائدة فى النفس. وعدم الإحساس بالآخرين... يجب أن لا نتصور إمكانية الخلاص من الذات بمحاربة الذات، أو بتداريب معينة تمنحنا الاتضاع، فكثيراً ما تجعلنا هذه المحاولات ننحصر فى ذواتنا، فنصير
فريسيين وضيقى القلب والفكر، ولكن مجرد جلسة هادئة مع الله يحدث فيها اكتشاف حقيقى وأصيل لحضرة الرب، تكفى لأن تنزل بالإنسان إلى وادى الاتضاع.
فمن? منا يقف فى نور الله ولا يكتشف قذارة حياته؟!
ومن منا تشرق عليه حضرة المسيح? ولا يمرغ جبينه فى التراب؟!
ألم يحدث هذا مع إشعياء النبى الذى سقط على وجهه? وأعترف بعجزه وصاح قائلاً: "ويل لى! إنى هلكت، لأنى إنسان نجس الشفتين، لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود" (إش 5:6)؟!
وأيوب أيضاً الذى كان يقول: "ليزنى فى ميزان? الحق، فيعرف الله كمالى" نراه يقول بعد أن رأى الرب فى العاصفة: "بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عينى. لذلك أرفضُ وأندمً فى التراب والرماد" (أى 5:42). وكذلك معلمنا بطرس الذى سمح للرب بأن يتحدث من سفينته، نراه يخر عند ركبتيه قائلاً: "أخرج من سفينتى يارب، لأنى رجل خاطئ!"، وذلك حينما اكتشف شخص الرب الحاضر معه فى السفينة (لو 8:5).
طريق الاتضاع إذ هو الوجود الدائم فى حضرة الله، فلنتدرب على هذا الأمر.
ب- خطايا النجاسة:
كثيراً ما نجاهد فى هذا الطريق بأسلوب خاطئ وذلك حينما نتصور أن الطهارة فضيلة منفصلة وهدف فى حد ذاتها وننسى أنها عطية وثمرة الروح القدس "وأما ثمر الروح فهو... تعفف" (غل 22:5،23)، أو حينما نتصور إمكانية الانتصار بالذراع البشرى، والإرادة الإنسانية.
بينما واضح أن صراعنا ليس مع الخطية بل مع الله، لنأخذه فى حياتنا ونشبع به وبنعمته، فتهرب الخطية، ببساطة.
يجب أن نجاهد بطريقة إيجابية فنشبع بالممارسات الروحية ووسائط النعمة والصلوات الكنسية، ولا نقف أمام الخطية فى عناد أو محاولة قمع، لأننا أضعف منها بذواتنا، ولكننا أقوى منها بالنعمة. دخول المسيح إلى الحياة يملأها فرحاً وسلاماً ونوراً ونقاوة، وانسكاب النعمة من السماء يضيف إلى النفس البشرية قوة جبارة ليست من طبيعتها فترتفع فوق الضعف، وفوق القصور، وفوق النجاسة. يجب أن نخرج من ذواتنا، ومن سلبيتنا، إلى الله وإلى القريب.
يجب أن يتسع قلبنا للخليقة كلها، فالنجاسة رفيق دائم للأنانية وإدانة الآخرين. يجب أن ندقق فى سلوكنا ونشعر بمن حولنا، لتستطيع النعمة أن تجد لها مكاناً فى قلوبنا.
ج- خطايا اللسان:
نحتاج إلى الإفراز لنميز بين الإدانة التى تصحبها الكبرياء وعدم المحبة، وبين التوجيه الذى يمكن أن نقدمه فى اتضاع ومحبة، كذلك لنميز بين الشهادة للحق وحب الظهور، وبين المداهنة وصنع السلام، بين الحكمة والخبث، وبين الوداعة واللسان المعسول... القلب الأمين يعطيه الرب إمكانية التمييز حتى لا ينحرف.
ثالثاً: الإفراز وضربات اليمين:
نحتاج إلى الإفراز أيضاً ونحن نسعى فى طريق الفضائل، فالفضائل يجب ألا تكون هدفاً لجهادنا بحيث نتحول إلى تجار فضائل، ولكنها مجرد ثمار لعمل الروح القدس فى حياتنا، ولمدى تجاوبنا مع هذا العمل. الله هو الهدف ومجرد الوجود فى حضرته أعظم
مكافأة، والنعمة الإلهية هى وسيلتنا نحو هذا الهدف، "حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إلى" (خر 4:19).
يقول القديس أنطونيوس: (ليست الفضائل بعيدة عنكم بل هى لكم وفيكم)... وإذ قد بدأنا السير فى طريق الفضيلة فعلاً وسرنا فيه، وجب أن نزداد جهاداً للحصول على تلك الأمور التى أمامنا... وطالما كانت الفضيلة فينا وتنشأ منا لذلك فإنها لا تتطلب منا سوى الإرادة "ها ملكوت الله داخلكم" (لو21:17).
لذلك يجب أن نمارس النسك والصوم والصلاة والسهر والعطاء والسجود لا باعتبارها أهدافاً نهائية، ولكن كمجرد تعبيرات وذبائح محبة نقدمها لإلهنا الذى أحبنا. كذلك يجب أن نسعى فى طريق القداسة والوداعة والاتضاع والتأمل والإيمان، على أساس أنها جميعاً عطايا النعمة للمخلصين، وأنها ليست مجرد نهايات فى حد ذاتها ولا بطولات بشرية.
الرب لم يشرح لنا مفهوم الحق بل قال: "أنا هو الحق"، ولم يوضح لنا معالم الطريق بل قال: "أنا هو الطريق" ولم يكشف سبيلاً للحياة الأبدية بل قال " أنا هو الحياة" يجب أن يكون المسيح هو البداية والنهاية وما بينهما.
رابعاً: كيف يأتينا الإفراز ؟
الإفراز - كغيره من الفضائل المسيحية - هو عطية النعمة لمن وضعوا فى قلوبهم أن يرضوا الله بكل قوتهم. ليس هو نتاج الحكمة البشرية، أو كثرة القراءة فى الكتب الروحية، بقدر ما هو استنارة إلهية للسائرين نحو الملكوت، باستقامة قلب. النعمة توجه الإنسان فى طلب هذه التوجيهات وفى طاعتها. لذلك يحتاج الإنسان إلى الأمور الآتية ليأتيه الإفراز:
أ- الأمانة القلبية:
أى خلاص النفس، ونقاء الدوافع، فى السير مع الله.
ب- الاستنارة الإلهية:
أى انسكاب نور الله وحكمته فى القلب المطيع، وهذه تأتى عملياً نتيجة.
1- الالتصاق المستمر بالله:
والوجود الدائم فى حضرته المقدسة، وطلب مشورته فى كل أمر، وتفيد هذه المشورات بأمانة كاملة وتقديم تقرير إلى الله عن كل عمل نعمله. ومن المفيد هنا أن يتدرب الإنسان على الصلاة الدائمة.
2- الإرشاد الروحى:
فمن المهم أن يكون لكل منا أب اعتراف مختبر يقوده فى طريق السماء، كما نتعلم من خبرة الآباء القديسين، وخبرة حياتنا اليومية. قال القديس برصنوفيوس: "الذين يريدون أن يسلكوا طريقاً ما، إن لم يسيروا مع من يريهم الطريق من بدايتها إلى نهايتها لن يستطيعوا الوصول إلى المدينة، فإن لم يترك التلميذ رغباته خلفه، ويخضع فى كل شئ ويتضع، لن يبلغ مدينة السلام. أما الذى لا يفعل رغباته ولا يلاجج بكلمة فإنه يستريح".
3- ملازمة الكتب المقدسة:
سواء أسفار العهدين حيث نلتقى ونستوعب خبرة رجال كثيرين، وحيث نسمع صوت الرب وتوجيهاته إلينا، أو كتابات الآباء حيث نرى نماذج عملية للحياة المسيحية.
فليعطينا الرب أمانة القلب، والالتصاق بالرب وطاعة المرشد، ومحبة الإنجيل... لنقتنى روح الإفراز، له المجد الدائم إلى الأبد.