إن المسرح يستنبط أحداثه وموضوعاته من المجتمع، فهو عين الكاميرا التي تصوّر المجتمع بمشاهد تعرضها للجمهور على منصة العرض لكي يحكم عليها ويرى الصالح والباطل منها فيجد الحلول المناسبة لواقعه المعاش وطراز حياته اليومية، كنتيجة لعملية الانتقال الحاصلة بين طرفي العملية المسرحية (الممثل والجمهور)، ويُطلب من الآخر أن يكشف الأمور ويستخلص من وراء الحوادث اليومية العابرة الحادث الذي لا يُبرر ولا يُعلل ولا ينبغي أن يتكرر. بإمكان المسرح أن يصف الطريقة التي يتم عن طريقها انتقال الانفعالات الى المتلقين من خلال عمليات لفظية وغير لفظية كالتخريجات الداخلية الصوتية والتعابير الجسدية وأخرى ترتسم على الوجه، أو التعابير الأخرى التي تصدر عن باقي أجزاء الجسد. وفي الوقت نفسه يمثل المسرح جانباً حيوياً مهماً من جوانب الحياة الاجتماعية إذ أن اغلب الصراعات الإنسانية والأمور الحياتية تُمثل على خشبة المسرح، ليس لمجرد التسلية والترفيه بل من اجل اكتشاف الذوات ومن اجل التطهير الذي دعا أليه أرسطو، لتوليد طاقة محفزة على التغيير الاجتماعي بدءاً من التغير الفردي لدى كل فرد من أفراد المجتمع، فقدرة المسرح على التأثير الفردي والاجتماعي هي من الأمور التي لا نجد فيها آدني شك في المجال المسرحي، فلم يكن المسرح مجرد مكان لتمثل الأعمال الدرامية بل كان مدرسة مسرحية قائمة بذاتها لها شخصياتها المثالية وصفاتها وعناصرها الخاصة، ولم يكن العاملين في المسرح يعملون منفردين ضمن هذه المدرسة بل كانت هناك روابط وثيقة تربطهم بالمجتمع مما جعلهم يشتركون في العملية المسرحية لخلق المفاهيم الأساسية للمسرح وتحقيق المعادلة المسرحية القائمة على مشاركة الجمهور في الحدث المسرحي سواء كان بأسلوب الاندماج أو بأسلوب إبداء الآراء حوله. إذن هناك الكثير من المعارف التي يمكن للمسرح أن يقدمها للمجتمع بطرحه (تقديمه) المواضيع والمشاكل الأساسية على منصة العرض وإيجاد الحلول المناسبة لها، وكلما كان المسرح متوغلاً في هذه الأمور يكون من البديهي أن يُمثل المرآة التي تعكس صورة المجتمع أو واجهته التي ترتقي بها الى مصاف التعبير ألإنساني ليجتذب الاهتمام والإثارة باعتبار انه ينجح في اغلب الأحيان في الوصول الى هدفه المنشود في التأثير في المشاهدين أو المجتمع ككل. هذا كله يقوم به شخص أو مجموعة أشخاص هم (الممثلون) يساهمون في التأثير في المشاهدين لإعطاء المعنى الأساسي للإثارة الممكنة للمسرح بمعناه الشامل على المجتمع سواء كانت إثارة إيجابية أو سلبية ألا إنها تبين الوظيفة الأكثر وضوحاً للمسرح بأشكاله المتنوعة ومواضيعه المختلفة باختلاف الحياة البشرية وتعدد المجتمعات. إن الأدب في جميع أشكاله كان وما يزال صورة الواقع الاجتماعي لا في حالته السكونية بل في حركته المتطورة والمتغيرة، وقد يكون من أهم حوافز تكوين المسرح هي إن الإنسان بحاجة الى أن يشاهد نفسه، ويتأمل فيه سماته وصفاته- ما ظهر منها وما أستتر- كما لو كان أمام مرآة تنقل له واقعه اليومي المعاش بإيجابياته وسلبياته واضعاً الحلول الممكنة له. يحيط المسرح بالظاهرة الإنسانية كلها عبر الحركة والفعل بسعتهما وتنوعها، وهو بهذا يعيد تأليف الأحداث بشكل يتيح للملتقين أن يرى فعله ويشاهد نفسه ويمتلئ من صورته المثبتة أمامه وقد تجلت بخطوط وألوان مختلفة. إن المجتمعات باختلافها بحاجة الى التوجيه الفكري والعلمي والسياسي، وقد تجد لها رديفاً للمسرح في أساليبه الفنية الماهرة بتقديم المادة المسرحية والتزامه بطرح القضايا الاجتماعية ومعالجتها ليلبي حاجة الإنسان في آن يرى نفسه في مرآة الحدث بالرقص والموسيقى والتشكيل، فالفن الذي يأخذ على عاتقه تصوير ذات الإنسان وحياته الاجتماعية إنما يؤدي عمليتين مزدوجتين: إحداهما (العرض) والثانية (الكشف) إذ أن إعادة تأليف الحدث تألفاً فنياً إنما ينطوي على قدرة المسرح على عرض الذات الإنسانية بطريقة درامية تستحوذ على اهتمام الجمهور وتجعله يستغرق متأملاً في سحر الجو الذي يجمعه بالمسرح. إن المشاهد، أمام العمل الفني، وبالأخص في المسرح لا يقتصر واجبه على الإطلاع فقط، بل يتعداه الى التعمق والاستغراق بحيث يحس انه نال من العمل المسرحي مبتغاه واشبع رغبته وفضوله، بينما يشعر الممثل المسرحي الصادق انه قد حصل بصدقه هذا على ما يستحق من إعجابه فعلاً، مع التنبيه بأن الصدق ليس في السطحية المتبعة أحياناً بل هو الحرارة والنور الذي يشع بهما العمل الفني من أعماق المؤدين ويحس بهما جمهور النظارة بلا تكلف. فالمسرح إذن، إن دلّ على وجهنا الثقافي فهو يضعنا أمام مشاكلنا نحن كمجتمع يبحث عن ذاته، وكلما طلّ علينا يحمل معه صوراً للإنسان وعلاقاته المختلفة، ومهمة المسرح أن يعرض أمامنا هذه الأمور عرضاً يضع من خلاله حلولاً ومعالجات ونصائح، موظفاً في ذلك عناصره وأدواته التي تكمّل نسيجه الفني. إن المسرحية المكتوبة ككل قطعة فنية تحمل بين ثناياها إمكانيات الغنى والمعنى الإنساني، وبقدر ما تخلق في نفس المجتمع من أجواء ومعاني وأفكار جديدة تهدف الى إفادته، يظل العرض المسرحي الوسيلة الأساسية في عرض المبادئ والقيم الفكرية على الخشبة، إذ إن الفن المسرحي يظل ممكناً طالما يرتكز على المعاني والقيم الإنسانية التي يعبر عنها إنسان واحد يمثل الجمهور كله، وهكذا فأن مسؤولية الممثل دقيقة تؤثر في أساليبه في توجيه الجمهور المسرحي، ففي المسرح يتحمل الممثل وحده عبء مجابهة الجمهور، لذا عليه أن يملك ناحية المهنة، فيمتع بمقدرة أدائية كافية تدعمه في طريقة عرضه للموضوع أو الحالة المراد تقديمها. إن شبّهنا العمل المسرحي بسيمفونية، نستطيع القول أن الممثل يعبر بذكائه وحساسيته وشعوره الفني عن القطعة المكتوبة، ويستطيع بتوظيف أدواته ووسائله أن يوّصل مادته الى المتلقي على أكمل وجه، وفي سبيل الوصول الى الهدف من التعبير المسرحي الكامل يجب على الممثل أن يتمكن من ملكاته الأدائية ككلها فيبدأ بالثقافة عامة والفنية خاصة لإغناء قابليته الشعورية والخيالية بكل الإمكانيات الشعورية الإنسانية، وبين مقومات الفن المسرحي عن طريق المعرفة الوحيدة التي تصل الإنسان بأصوله الكونية. إن ما يجعل العمل المسرحي عملاً جدياً هو مقدار اهتمامه بالمشاكل الجدية في المجتمع ومقدار ما يعطيه هذا العمل من فائدة اجتماعية تدلل على تحقيق الغايات الإيجابية المتوخاة.
منقول