[b]هل أتركه ...أم أنقذه ؟!
هل أتركه أم أنقذه؟ كان شاؤول يخدم في الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وكانت مهمته قتل كل الذين يقفون أمام تحقيق الحلم الإسرائيلي في إقامة دولة إسرائيل العُظمى.
في أحد الأيام استيقظ باكراً جداً مع زملائه من الجنود ليمارس عمله كجندي، كان القصف المدفعي من هنا وهناك يُدوّي بأعلى صوته، فجأة وجد شاؤول نفسه أمام امرأة مُسِنّة تختبئ تحت شجرة وتحتضن طفلاً صغيراً بين ذراعيها، طفل ينزف بشدّة منتظراً الموت نتيجة القصف المدفعي
من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. وقف شاؤول مُتفرِّساً في المرأة التي كانت ترتجف من الخوف، ماسكاً بيده سلاحه، مستعداً للقتال موجِّهاً كلامه لها: " لماذا تختبئين هنا؟"....ولأنَّه لم يسمع منها غير البكاء والأنين، قرّر بعض لحظات أن يُسرع بأخذ الصغير لأقرب مصّحة علاجية لإسعافه وإنقاذه من الموت المُحقَّق. وفيما هو يحمل الطفل مسرعاً في طريقه، كان زملاءه الجنود يصرخون بأعلى صوت قائلين له: " اتركه...اتركه...اتركه ليموت...إنَّه من الأعداء". لكنّ شاؤول مضى في طريقه إلى أقرب مَصحّة لإسعاف أحد أبناء أعدائه، وتَرَكه هناك للعلاج ....
وهو لم يكتفِ بهذا، لكنّه ما أن أنهى عمله في الدفاع عن بلاده في اليوم التالي، حتى أسرع للذهاب إلى المستشفى للاطمئنان على الصغير، فلمّا رأته الجدّة، ركضت إليه وارتمت عند قدميه مُقبِّلة يديه وهي تبكي فَرِحة، ونظرت نحو الأعلى إلى عيني الجندي قائلة: " لقد أنقذتَ حفيدي من الموت، لقد فقدتُ ابني وزوجته الأسبوع الماضي برصاص الجنود الإسرائيلين وهذا الطفل هو الذي بقيَ لي في هذه الدنيا لأعتني به- أنا أحبك- لقد دعوتُ إلى الله الليلة الماضية، ورجوتُه أن يساعدني كي أغفر للجيش الإسرائيلي ما فعله بابني وزوجته".
يَشعرُ الكثير من النّاس بأنّ ممارسة محبّة الأعداء أمرٌ مستحيل. بالطّبع هذا حقيقي، لكن لكي تبدأ بمحبة عدوِّك عليك أولاً أن تقبلَ حقيقة أهميّة الغفران للذينَ أساءوا إليكَ أو جرحوكَ. كما أنه عليك أن تُدرِك أنّ الغفران هو فِعلٌ عمليٌ يبدأه الشّخص الذي أُخطِىء في حقِّه، والضحيّة التي تعاني من جروح في الأعماق. إنّ محبّة أعدائنا وصيّة هامّة جدّاً إذا أردنا أن نظلّ متمتِّعين بحياتنا، بغضّ النّظر عن أنّها أُمنية نحلم بها لعالَم مثالي.
لقد تأمّلنا سابقاً في مقالة الإساءة والغفران بوصيّة السيّد المسيح "أحِبّوا أعداءكم". ربّما لا توجد وصيّة من وصايا الرّب يسوع أصعب من هذه الوصيّة، لكن لنا في شخص المسيح نفسِه مثالٌ لتطبيق ذلك، فالمسيح قَرَن أقواله بأفعاله، وقد تجلّى ذلك في ذُروة آلامه وعذاباته على الصّليب، عندما طلب من الآب السماوي قائلاً: "يا أبتاه اغفِر لهم لأنهّم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23: 34). لقد أَحبَّهم المسيح وغفرَ لهم، وطبّقَ ما علَّمه لتلاميذه.
لكن كيف نُحبّ عدوّنا ومن يُسيء إلينا ويضطهِدنا؟ وكيف نغفر؟ لقد علّمَنا المسيح كيف نفعل ذلك في الصّلاة الربّانيّة، إذ علينا أن نطلب من الله قائلين: "واغفِر لنا ذنوبَنا كما نغفِر نحن أيضاً للمُذنِبين إلينا" (متى12:6). لقد وضع الرّب يسوع المسيح مسألة طلبنا غُفران خطايانا في المستوى نفسه لغُفراننا لمن يسيء إلينا.
عزيزي، لا تقُل في نفسِك إنّ هذه الوصيّة صَعبة التّطبيق جدّاً بل من المستحيل تطبيقها. يُخبرنا الكتاب المقدّس عن شخص اسمه "استفانوس" - وهو أوّل شهيد في المسيحيّة - استطاعَ أن يُطبِّق هذه الوصيّة عندما تَعرَّضَ للإضطهاد والرَّجم حتّى الموت. لكنَّ استفانوس وقَبلَ أن يُفارِق الحياة صلَّى إلى الله لأجلِ راجِمِيه قائلاً: "... يا ربّ لا تُقِم لَهُم هذه الخطيّة" (أعمال الرُّسُل 7: 60). وهناك الكثير من القِصص المُشابِهة لمسيحيّين عاشوا هذه الوصيّة في حياتهم مُتمثِّلين بسيِّدهم يسوع المسيح. فإن كنتَ حقّاً تريد أن تَصِلَ إلى هذا المستوى من المحبّة العميقة والغُفران الحقيقي، عليكَ أن تأخذَ بِعَين الإعتبار ما يلي:
أولاً: أهميّة الغُفران الحقيقي:
- الغُفران وصيّة من الله لنا: "ومتى وقفتم تصلّون فاغفروا إن كان لكم على أحدٍ شيءٌ لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السموات زلاّتكم". مرقس 11: 25.هذا ما فعَلَه الله ويفعله بصفة مستمرّة: "ولن أَذكُرَ خطاياهم وتعدّياتهم في ما بعد". عبرانببن 10: 17.
- الغُفران شرط كي نتمتّع بغُفران الله الأبوي لنا: "فإنّه إنْ غفرتم للناس زلاّتهم يغفرلكم أيضاً أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للنّاس زلاّتهم لا يغفرلكم أبوكم أيضاً زلاّتكم". متى6: 14 -15.
- عدم الغُفران يحرمنا من عَمَل الرّوح القُدُس داخلنا، ومن ثمارِه فينا. "ولا تُحزِنوا روح الله القدّوس الذي به خُتِمتُم ليوم الفداء"،"وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح". أفسس 4: 30 و32.
- عدم الغُفران يُدمِّر علاقاتنا مع الآخرين ويفتح الباب لإبليس لزَرع الخصومات. "مُلاحِظين لئلاّ يَخيبَ أحدٌ من نعمة الله، لئلاّ يَطلُعَ أصلُ مرارةٍ ويصنعَ انزعاجاً فيتنَجَّسَ به كثيرون". عبرانيين 12: 15.
- عدم الغُفران يُدمِّرحياتنا الشّخصيّة نفسيّاً وجسديّاً.
ثانياً: نتائج الغُفران الحقيقي:
- التحرُّر من سِهام إبليس وضغوطِه علينا.
- الشّفاء النّفسي الدّاخلي من المرارة وما سبَّبَتْه.
- احتمالات الشّفاء من بعض الأمراض الجسديّة التي قد تكون نَتَجَتْ عن الجروح النفسيّة التي حدثت.
- الإنطلاقة في علاقتنا مع الآخرين والتمتُّع بالعلاقة معهم، والقدرة على تقديم المحبّة الصادقة غير المشروطة.
- التمتُّع بعلاقة مُشبَعة عميقة مع الله أبينا، وإطلاق عمل الرّوح القُدُس داخلنا.
ثالثاً: خطوات عملية للغُفران الحقيقي :
- إنّه ليس الطَّلَب من الشّخص المُخطىء أن يدفع أو يعمل شيئاً مقابل خطأه، بل هو مُسامَحة غير مشروطة على غِرار ما فعل الله معنا حين غفر خطايانا بكفّارة دم المسيح يسوع.
- إنّه قد يُكلِّفنا حقوقنا التي لنا والتي يجب على الآخرين أن يدفعوها لنا، أو أن يقوموا بتصحيح ما قد فعلوه من أخطاء.
- يتمّ هذا الغُفران الصّحيح بالخطوات التالية:
· الإعتراف بوجود جروح ومرارة داخليّة نتيجة الإساءة التي حدثت لي من الطرف الآخر، والإعتراف بردود فعلي الغاضبة تجاه هذا الشّخص المُخطِئ.
· ذكِّر نفسكَ بغُفران الله لكَ في المسيح يسوع وعَظَمَة هذا الغُفران الذي تتمتَّعُ به، واترك الرّوح القُدُس يَفيض بعمله داخلك لنَزع المرارة المدفونة.
· ذكِّر نفسكَ أنَّ الله دائماً في المشهد، وأنّه يستخدم ويُحوِّل كلّ شيء لصالحنا كما نقرأ: "ونحن نعلم أنّ كلّ الأشياء تعمل معاً للخير للّذين يحبّون الله الّذين هم مَدعوّون حَسَبَ قَصدِهِ". (رومية 8: 28). وكما نرى في قصَّة حياة يوسف وتصرُّفه مع إخوته عندما قال لهم: "لا تخافوا لأنّه هل أنا مكان الله، أنتم قَصَدتم لي شرّاً أمّا الله فقَصَدَ به خيراً لكي يفعل كما اليوم". (تكوين 50: 19 و20).
- دَعِ الرّوح القدس يُساعدك لتتحرّر من أي مشاعر غير نقيّة تجاه من أساؤوا إليك، وتجاه أي أخطاء أو ذنوب تُمسكها عليهم، بمعنى:
· توقّف عن أحقِيّتك في الإنتقام منهم.
· توقّف عن انتظارك لعِقاب الله لهم.
· توقّف عن أحقِيّتك في إثبات خطأهم وإدانتهم أمام الجميع.
· توقّف عن إصرارك بأن يعترفوا بأخطائهم من جهتك وأن يُصحِّحوا أخطاءهم وأسلوب حياتهم.
· صلّي من أجلهم حتى يتمتَّعوا بغُفران الله الحقيقي لهم وأن تُرَدَّ نفوسهم إلى الطّريق الصّحيح.
إنّ المحبّة هي القُوّة الوحيدة القادِرة على تحويل العدوّ إلى صديق. سنقول لِمَن أساءوا إلينا: "سنَقبَلُ قُدرتَكم على أذيَّتِنا واضطهادِنا بقُدرتِنا على تَحمُّل المعاناة، وسنُقابِل قُُوَّتكم الماديّة بقُوّة النّفس فافعلوا ما تريدون فإنّنا سنظَلُّ نحبُّكُم".
عزيزي القارئ، سأتركُ بين يديكَ هذه الآية من الإنجيل المقدس: "فكُلّ ما تريدون أنْ يفعل النّاس بكم أفعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم" (متى 7: